عادت السيدة إلى المطبخ بينما كانت جوليـا تسأل
عمها في صوت ٍ خافت :
- عمي العزيز : ألم يحن الوقت لتحكي لي قصة
هذا الوحش البشري الذي تحتجزه والدتي
في القبو منذ سنين؟
لقد كبرت الآن ومن حقي أن أعرف ..
بالطبع لن أجرؤ على سؤال أمي لأنها تضرب
حول " آدم " حصارا ً من التـعـتـيم و الكتمان
لكني أعتقد بأنك تعرف تماما ً ما تعرفه أمي ..
أرجوك أخبرني قبل أن تعود والدتي .
تـنـهـد العم العـجـوز ونـفث دخـان البايـب من أنفه
ثم أطـلـق زفرة ً حادة وقال :
-آ .. كان لك ِ أخ قبل أن تولدي بفترة ليست طويلة
لم يكن كباقي الأطـفال ..
ولم يكن يـبكي كثيرا ً ..تخـيلي !
كانت أمك مولـعة به لـدرجة كبيرة
ووشمته برسم عقرب ٍ أسود على كتفه اليسرى
كـالوشم الذي على كـتـفـك أنـت ِ كحرز ٍ
من الـحـسـد والعـين الشريرة ..
وأسـمـتـه ليـون لأنـه كان ثـقـيل الوزن
وأكبر حـجـما ً من سنـه بكثير ..
كـانت أمـك تقـول ضاحـكـة ً : أنا لا أنـجب إلا الأسـود
وحتى لو أنجـبـت ُ بـنـتا ً فـسـتـكون لـبـوة ً شرسة ..
وفي ليلة مشؤومة ؛ كنا أنا ووالدك في رحلة صيد
حـين هاجم البلدة مجموعة رجال
من البلدة المجاورة "كانيبال تاون "..
كانوا من المهووسين الذين اعتادوا على ذبح الأطـفال
في حفلاتهم ذات الطقوس الشيطانية المقـيتة .
وقيل بأنهم قـتلوه وقيل أيضا ً بأن زعيم الطائفة
أ ُعجب به فأخـذه ليـتبناه
ومع أن الأرجـح أنه قـُـتل إلا أن أمك مازالت تصر
بأنـه حي في مكان ما !
حـيـنها أصيـبت والدتك بلوثـة ..
ومـنذ وفاة والـدك وهي ترسل رجـالها
لزرع المسامير على الطريق ..
حيث تنفجر العربات والمركبات ذات الأحصنة والإطارات ..
فيضطر ركابها أو سائقها للمرور من هنا لإصلاحها
وللإستراحة من عناء السفر والأكل وشرب بعض البيرة ..
وأنت تعرفين الباقي لأن لك ِ دورا ً تقومين به ..
و بـعد أن تضعي المنوم لهم في الشراب
أحملهم أنا وجاك وماك
إلى القبو ليلقوا نـهايتـهم البشـعـة بين يدي آدم
في المشرحة أسفـل قبو الإستراحة ..!
ثم يــُـدفـنون خـلف الإستراحة وتـبـني والـدتك فوق قـبـورهم
جـدرانا ً ً صغـيرة من الآجـر
كي لاتـفوح الرائـحة أو يـنـتبه أحـد للمـكان .
- وهذا ما أود معرفته ..من يكون آدم هذا ؟
ولماذا تحيط أمي شخصيته بكل هذا
السور العالي من السرية والغـمـوض ؟
- أطرق العجوز قليلا ً ثم رفع راسه وأستطلع المكان بعـينه
وكأنه يريد أن يتأكد بأن السيدة ليست قريبة من المكان
ثم تنهد بعمق ٍ وأكمل سرد قصته الغريبة :
آدم هذا ؛أرسلت أمك رجال الإستراحة لخـطفه من نفس البلدة ..
كانت تصر على أن الطفل المخطوف يجب أن يكون وليدا ً جديدا ً لكي تعـجنه بالحقد فيـنمو معه ..
حبسته في القبو وحـولـتـه إلى مايشبه المشرحة
وعزلت آدم عن العالم الخارجي ..
لم تـعلمه سوى شيئيـن في هذه الدنيا : الأكل والقـتل ..
كانت تحضر له بعض الحيـوانـات الضعيفة
من الغابة المجاورة ..
وتدربه على قتلها وهي حية
وتقطيع أشلاءها بأظافره الحادة الطويلة وأكلها ..!
تسمرت عينا جوليـا على باب المطبخ ثم قالت وهي ترى
خيال والدتها عـلى جـداره :
أشعر بالإشمئزاز من نفسي ..
أعلم بأني أشترك في هذه الجرائم المروعة رغما ً عني ..
لكن بعد سماع قصتك هذه فأنـا لا أتوقع لنفسي مستقبلاً
ً أقل سوادا ً مما هـو عليه الآن ..
كفى ياعمي ..نكمل غـدا ً فأمي قادمة ..
جلست السيـدة وتناولت طعامها بصمت ٍ دون أن تلتفت
لأبنـتها وعمها العجوز ..
لم يكن أحد ٌ يعلم بما يدور في رأسها الضخم ..
دخل شاب تبدو عليه علائم الوسامة والقوة
وتوجـه إلى البار ..
قـفزت جوليـا على قدميها كما قـفز قلبها بحضوره الساحر
وتقدمت نحو البار لترى ما سيطـلب ..
أدارت السيدة فكتوريا عيناها نحو العجوز راندو
وقالت بخبث:
- كنت قد فقدت الأمل اليوم بعشاء دسم لآدم ..
خصوصا ً بعـد أن انقلب الجو وبدأ الثلج بالهـطول
مـع توقف المطر ..
لكن صيده الوفـير أتى يمشي على رجـليه ..
اذهب وقل للغبيان جاك وماك أن يـنتظرا أوامري .
ذهب العجوز لتنفيذ ماطلبته منه السيدة ..
بينما وقفت جوليـا خلف البار مشدوهة ً
وهي تركز نـظرها على عيني الشاب .
عينيه كان فيهما لون جديد من الغموض
والسحر والسواد الجـذاب ..
سواد ٌ آسر لا تجـده في عيون شبان هذه البلدة ..
كان لعيني جوليـا نفس اللون الأسود لكنهما
أوسع وأقل إشعاعا ً ..
حـدثت جوليـا نفسها باستغراب :
أشعر كأني أعرفه منذ زمن بعـيد..
شيء غريب يدفعني لأن أضمه ..
لست من الفتيات اللائي يفكرن بهذه الطريقة الرخيصة ..
إذن مالذي يدفعني لفعل ذلك ؟ لا أدري .. لا أدري .
استفاقت جوليـا من حلمها القصير العذب
على صوت الشاب :
- كوبا ً من البيرة ..الجو بارد جدا ً
لكن كوبا ً من البيرة الباردة لم يقـتل أحـدا ً ..!
- وما أدراك بذلك أيها السيدالنبيه ؟
- لم أفهم قصدك ..هل تلــمـّـحين لشيء ٍ ما سيـدتي ؟
- دعـك مني ..ما اسمك
- سامي ..تم تعييني في محكمة البلدة منذ يومين
وهأنذا أسافر للإلتحاق بعملي الجديد ..
أشعر بأن حياة ً جـديدة تنتظـرني ..
- حياة ٌ جـديدة أو نهاية جـديدة لا فرق ..
المهم أن هناك شيء جـديد !... قالتها جوليـا بحسرة
شعرت جوليـا بأنها تهم بأن تنصح الشاب بمغادرة المكان
وعدم شرب البيرة ..
لكن هيهات ..هيهات أن تفكر حتى مجرد التفكير بذلك ..
وضعت المنوم في كوب البيرة بأصابع ترتجف ..
مع أنها ليست أول مرة ..
أمعنت النظر في حبة المنوم التي بدأت تذوب في الشراب
كماذاب قلبها مذ وقعت عيناها
على هذا الشاب الساحر و الغامض ..
ثم دفعت بالكوب إلى الشاب الذي فـتـن قلبها في دقائق ..
قلبها الذي استعصى على كل شبان البلدة
والبلدان المجاورة ..
تناول سامي الكوب قائلا ً وهو ينـظر
إلى الثلج المتساقط في الخارج :
- أتعلمين شيئا ً سيدتي ..
أشعر بأني لا أريد أن أغادر هذا المكان ..
بل قد تضحكين إذا قلت لك أني أشعر بأن
هذا المكان هو محطتي الأخيرة ..
هل انت ِ متزوجة ؟ لا تقولي نعم أرجوك ِ .
ابتسمت جوليـا بمرارة وقالت :
لا ..إني في حقيقة الأمر لم أشعر بالميل لأي أحد هنا
ولا حتى ممن رأيتهم على مدى سنوات يمرون من هذا المكان ..
لكن ..! لا أعرف .. وماذا عنك ؟
{ لن يجيـبك يا جوليـا فـقـد بدأت
عيناه بالذبـول ، والمـوت لا يأتي مرتـيـن ! }
شعرت جوليـا بقشعريرة تسري في جسدها
وبدأ قلبها ينفطر رويدا ً رويدا ً كجدار ٍ آيل ٍ للسقوط
وهي ترى سامي يقاوم الإغـماء بفعل المخـدر ..
بدأت عينا سامي تغمض شيئا ً فشيئا ً ..
ودارت به الدنيا وهو يستعيد شريط ذكريات حياته ..
عشرون سنة أختزلها في لحـظات ٍنـبتت من زمن الموت ..
ثم بدأت عيناه تزوغ وهي تمر
على السقف والجدران والمقاعد و..و جوليـا ...
ثم همس لجوليـا بصوت ٍ خافت :
- ألم أقل لك ِ بأنها محـطتي الاخيرة يا ....
لم تقولي لي ما اسمك ؟
- جوليـا ..هل تسمعني ..اسمي جوليـا ..
تذكره جيدا ً يا سامي .. وداعـا ً يا