الأمـانـة
سورة النساء (4)
قال الله تعالى: } إنَّ الله يأمرُكُم أن تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلها{ 0
الأمانة : هي كلُّ ما يجب حفظه وتأديته إلى أهله. فهي كلمة واسعة المدلول تشمل جميع العلاقات الإنسانية ؛ فالتزام الإيمان وتعهُّده بأسباب الرعاية والنماء أمانة ، وإخلاص العبادة لله أمانة ، وإحسان المعاملة مع الأفراد والجماعات أمانة ، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه أمانة ، وكذلك أمانة الزوجة مع الزوج بحفظ ماله وعرضه وسرِّه أمانة . فما أكرمَ المجتمعَ الَّذي يأمن فيه الناس بعضهم بعضا ً! والإسلام ـ بوصفه دين الحياة القويمة والتعامل السليم بين الناس ـ يرسي دعائم الأمن الاجتماعي، فيأمر الناس جميعاً بأداء الأمانة إلى أصحابها، خوفاً من أن يَفرُط بعضهم على بعض، فتختلَّ القيم الاجتماعية، وتسود الفوضى وينقلب المجتمع إلى غابة يأكل القويُّ فيها الضعيف، وقد أكَّد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (رواه أحمد وأصحاب السنن).
وللأمانة أنواع: أولها وأعظمها أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد، إنها أمانة الفطرة الإنسانية الَّتي حملها الإنسان وتعهَّدها. وكذلك حفظُ المرء ما عهد الله إليه من أوامر ونواهٍ، واستعمال جوارحه ومشاعره فيما ينفعه ويقرِّبه من ربِّه. هذه الأمانة الَّتي تنبثق منها سائر الأمانات الأخرى، فمن حفظ حقَّ الله حفظ حقوق عباده، الَّتي تتطلَّب ردَّ الودائع إلى أهلها، وكتم أسرارهم، وستر عيوبهم، والبعد عن الغش في البيع، وترك التطفيف في الكيل والوزن وغير ذلك؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد وابن حِبَّان عن أنسt : «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له». ويدخل في هذا الإطار أمانة العلماء مع العامَّة، بأن يرشدوهم إلى مبادئ وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم من أمور التربية الحسنة، والكسب الحلال، ومن المواعظ والأحكام الَّتي تقوِّي إيمانهم، وتنقذهم من الشرور والآثام، وترغِّبهم في عمل الخير، وتبعدهم عن التعصُّبات الباطلة الَّتي تمزِّق صفوفهم وتضعف شوكتهم، وكذلك أمانة الزوجة مع الزوج بحفظ ماله وعرضه وسرِّه.
أمَّا الأمر بالعدل بين الناس، فالنصُّ يطلقه عدلاً شاملاً بين الناس جميعاً، فهو حقٌّ لكلِّ إنسان بوصفه إنساناً، وهو أساس الحكم في الإسلام، وقيمة أخلاقية عليا. ذلك أن إقامة الحقِّ والعدل هي الَّتي تشيع الطمأنينة، وتنشر الأمن، وتوثِّق علاقات الأفراد، وتنمِّي الثقة فيما بينهم، وتحقِّق الرخاء في المجتمع، وتدعم أوضاعه فلا يتعرَّض لخلخلة أو اضطراب.
إنَّ مهمَّة رسل الله تحقيق العدل، وكذلك وظيفة أتباعهم في السير على هذا النهج، كي تبقى الشرائع تُظِلُّ الناس بظلِّها الظليل، بحيث يتحقَّق العدل بإيصال كلِّ ذي حقٍّ إلى حقِّه، والحكم بمقتضى ما شرع الله من أحكام، وبتجنُّب الهوى في القسمة بين الناس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الَّذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا» (رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص t ). وقد أُمِرَ المسلمون وخاصَّة الولاة والقضاة، بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال، لأنه فوَّض إليهم أمر النظر في مصالح العباد، يقول الله تعالى: {..وإذا قُلتُمْ فاعدِلوا ولو كان ذا قُرْبى..} (6 الأنعام آية 152). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس t : «لا تزال هذه الأمَّة بخير، ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استُرحمت رحمت» (أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وأبو يعلى الموصلي في مسنده أيضاً).
وأخيراً فإن الله تعالى لا يأمر عباده إلا بما فيه صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم في الدارين، فعليهم أن يَعملوا بأوامره، فهو أعلم منهم بالمسموعات والمرئيات، فإذا حكموا بالعدل فهو سميع لذلك الحكم، وإذا أدَّوْا الأمانة فهو بصير بذلك، وفي هذا وعد عظيم للمطيع، ووعيد شديد للعاصي، وفي ذلك إشارة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (رواه مسلم عن عمر t ).
سورة الأنفال(
قال الله تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأمانَةَ على السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ فأبَيْنَ أن يحمِلْنَها وأشفَقْنَ منها وحمَلَها الإنسانُ إنَّه كان ظَلُوماً جَهُولا(72)}
سورة الأحزاب(33)
وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون(27)}
ومضات:
ـ أشار الله تعالى إلى ثقل الأمانة وعظم مسؤوليتها، حيث رمز إلى أن لها وزناً معنوياً، لا تستطيع السموات والأرض والجبال الرواسي أن تحمله، لأنها تتعلَّق بأداء الحقوق إلى أصحابها سواء منها المادية أم المعنوية.
ـ ينبغي على الإنسان أن يدرك عظم الأمانة المنوطة به قبل أن يتعهَّدها، حتَّى يحسن تقدير تبعاتها، ويعمل على حفظها؛ فأيُّ إساءة بتأديتها تخلُّ بإيمانه بالله ورسوله، فيسيء بذلك إلى نفسه ومجتمعه.